اعتدنا على رفع الأسعار فلم يعد الأمر يمثل لنا أية مفاجأة ، نتعامل معه كقدر لا مفر منه .. لكن لايعنى تسليمنا به أننا نستقبله بهدوء أو ارتياح أو لا مبالاة ، على العكس يثير دوما كل قرار للحكومة بزيادة الأسعار مزيدا من القلق والتوتر والغضب ، ويدفعنا للتساؤل عما يمكن أن نستطيع عمله في مواجهة وحش الغلاء الذى لايعرف الرحمة .. كيف نعيد ترتيب أولويات احتياجاتنا بما يتناسب مع سياسة التقشف المفروضة دوما علينا بلوائح جديدة كل يوم؟ كيف نرشد استهلاكنا ونستبعد ما كنا نعتبره لوقت قريب احتياجات من الصعب التنازل عنها والعيش بدونها ؟ أصبحنا فريسة سهلة لهواجس الفواتير التي تهبط على رؤوسنا كمطرقة حديدية مفزعة؟ نضع أيدينا على قلوبنا في كل مرة نذهب فيها للتسوق.. نحسب ونجمع ونقسم ونضرب بأكفنا على عقولنا لنختزل ما يمكن اختزاله .. نسحب عربة التسوق بالسوبر ماركت ونجمع فيها احتياجاتنا الأساسية ، ثم نفرغ ما فيها تدريجيا حتى تكاد تكون خالية ما أن نقترب من الكاشير تجنبا للأرقام المرعبة التي تحملها فواتير التسوق ، رغم إقتصارنا في كل مرة على ماكنا نعتبره أساسيات الحياة ، أسعار الجبن والبيض والزيت والأرز واللبن والزبادى كلها تقفز كل يوم بلا توقف.
نقتصد قدر ما نستطيع ونعلن سياسة تقشف جديدة ، نحاول قدر الإمكان تدبير أحوالنا لكن غول الغلاء يأتي دوما لينسف كل محاولاتنا ويطرحها أرضا ..
تزداد قبضة العجز إذا ماتعرض أحدنا للمرض ، نسأل عن تكلفة كشف الطبيب قبل أن نسأل عن مهارته وبراعته في التشخيص.. لانخرج من عيادته قبل أن نطلب منه حذف مايمكن الاستغناء عنه من أدوية ، ونكرر نفس المحاولة مع الصيدلى أملا في تقليص فاتورة العلاج لأدنى حد تستطيع جيوبنا الخاوية احتماله ، وكثيرا ما نختزل تلك الرحلة المرهقة بالإكتقاء بالاتصال بالصيدلى طلبا لمشورته دون اللجوء للطبيب ، توفيرا لقيمة كشف الطبيب التي تقفز هي الأخرى بلا رحمة.
نار الغلاء تحاصرنا بقسوة وتأتى تصريحات الحكومة لتزيد من وطأة تلك القسوة بدلا من أن تخفف منها ..
لم تعد تنطلى على الشعب المأزوم كل الحيل والألاعيب ومحاولات الإلهاء ، بعدما باتت كلها مكشوفة من فرط تكرارها وسذاجتها ، ليبدو أن ردود الفعل الغاضبة لم يعد لها محل من الإعراب أو التقدير أو حسابات أي من المسؤولين ولم يعد أي منهم يهتم كثيرا بإحكام عرض التبريرات التي دفعت لزيادة الأسعار وباتت كل التصريحات مجرد ذر للرماد في العيون بعدما أيقن الجميع أن أحدا لايستطيع الاحتجاج أو الاعتراض أو الرفض ، وأن كل سياسات الحكومة باتت كالقدر الذى لا مهرب منه.
لم يكن غريبا إذا أن تخرج علينا الحكومة بتبريراتها الواهية بعد زيادة أسعار الوقود الأخيرة مؤكدة أن أسعار الوقود فى مصر ما زالت رخيصة مقارنة بدول عديدة متجاهلة مقارنة دخل المواطن في تلك الدول بدخل المواطن المصرى الهزيل في بلده.
على جانب آخر تبشرنا الحكومة برفع حد الإعفاء الضريبى للمواطن الذى يصل دخله إلى 2500 جنيه ، متجاهلة كعادتها أن ذلك المواطن بدخله الهزيل الذى استحق شفقتها فأعفته من الضرائب هو في الواقع معفى من الحياة لا يعيش على هامشها فقط ، بل في باطن أرضها تحت طبقات الفقر السحيقة.
لاتكتفي الحكومة ببشائرها المستفزة ، بل تزيدها بتبشيرنا بزيادة قاعدة المستفيدين ببرامج الحماية الاجتماعية في ظل الظروف الاستثنائية كما تصفها .. الإعتراف بالحق فضيلة لكن الأفضل منه هو رد تلك الحقوق والعمل على تحسين أحوال الطبقات المطحونة لا بزيادة وتوسيع قاعدة المستفيدين بمشروع "حياة كريمة" ولكن بإعادة تقييم السياسات والالتزام بفقه الأولويات فى كل المشروعات التى تتبناها الدولة.
لم يعد بمقدور الشعب تحمل المزيد .. لم تعد الطبقات الفقيرة قادرة على الحياة وانسحقت الطبقة الوسطى لتصبح أقرب للفقر ، وأصبحت الطبقة الغنية تعانى بدورها من الغلاء ، لم يعد يتحمل الحياة في بلادنا سوى المليارديرات ، ولهم فقط تخطط الدولة أضخم وأعظم مشروعاتها وأكثرها كلفة .. لتصبح الملايين المأزومة خارج حسابات الدولة تكتفى بإعفاء معدميها من الضرائب غير عابئة بأنها أعفتهم بسياساتها أصلا من الحياة.
-------------------------------
بقلم: هالة فؤاد
من المشهد الأسبوعية